مولانا بروفيسر عبيد حاج علي رئيس قضاء السودانالاسبق


أن عبارة " رئيس القضاء " تعني لغة " القاضي الأول " ، وأن عبارة القاضي الأول تعني اصطلاحاً – القاضي المتميز على القضاة الآخرين بالعلم والعمل والأخلاق الذي يمكنه ذلك التميز من تصريف العدالة بنزاهة ، ومن التوجيه والمحاسبة ، ومن عكس وجه العدالة المشرق على الآخرين في الداخل والخارج عند الالتقاء بهم ، والحديث إليهم عن العدالة في السودان إذ أن العنوان يغني عن الجواب ، والعنوان هنا هو رئيس القضاء والجواب هو القضاة الأخرين وإلا فقد اللقب أو المنصب الاحترام اللازم عند القضاة وأهل القانون والجمهور

 

عبيد حاج علي من مواليد أم سنط في العام 1940 سليل الشيخ إبراهيم شكرت الله جده لأبيه رجل الخلاوي المعروف من الصادقاب وهو من أولاد جابر الأربعة وجدته لأبيه هي فاطمة بت حاج أحمد الكبير أخت حاج الفضل وحاج البشير وحاج محمد ود حاج أحمد وله من الأعمام الفكي بابكرمحمد ــــ وأحمدنور محمد أولاد سالم

تلقي تعليمه الأبتدائي بمدرسة أم سنط والشكابة شاع الدين ـ ثم المتوسط بمدرسة مدني الأهلية (أ) والثانوي بمدرسة حنتوب وإلتحق بجامعة الخرطوم في العام 1956


عمل قاضيا من العام 1960 ــــــ 1975 عمل بالمحاماة من 1975 ـــ 1994 عمل رئيسا للقضاء في الفترة 1994 ــــ 1998

وشغل العديد من المناصب الفخرية وتراس العديد من اللجان القوميةوحاليا هو رئيس لجنة الحريات والحقوق الاساسية 

بالحوار الوطني 

متزوج من السيدة / نفيسة عبداللطيف عبدالقادر وله من الأولاد ــ د. أحمد و طارق و ياسر ومن البنات ــــ آمال ــــــ د.أماني ـــ  سامية

يحكي مولانا عن سيرته في توثيق لصحيفة الصيحة فيقول

في الأصل انا  مزارع نشأت وترعرعت مع المزارعين في قرية أم سنط  تقع شرق جنوب ود مدني في ولاية الجزيرة، ومع أسرتي يعملون في مجال الزراعة ، درست الأولية في مدرسة الشكابة الأولية كان يشرف عليها ناظر القبيلة (شاع الدين) في ذلك الزمان، كان السودان يخضع للاستعمار الإنجليزي المصري ، كانت إنجلترا هي المسيطرة على الحكم في السودان ، الإنجليز ما كانوا يرغبون كثيراً أن يتعلم السودانيون، كانوا يريدوننا: )أفندية فقط، يسمعون التعليمات، وينفذونها(، لذلك كان في المنطقة ثلاثة مدارس أساسية أقامها رجال الإدارة الأهلية، منها مدرسة الشكابة، ومدرسة في جزيرة الفيل شرق مدينة مدني أقامها زعيم القبيلة اسمه (شقدي)، أما المدرسة الثالثة في قرية شبارقة أقامها المرحوم يوسف جميل . بعد ذلك لا توجد أيّ مدرسة أولية في المنطقة إذا استبعدنا جزيرة الفيل. ود مدني على مستوى المدارس الوسطى توجد بها مدرسة حكومية واحدة هي المدرسة الأميرية الوسطى وكانت تقبل (30) طالباً في السنة من المنطقة كلها من (بحر أبيض - الخرطوم - سنار جميعها) .


قصة حنتوب


أنشأ الرجال الوطنيون بود مدني مدرسة ود مدني الأهلية الوسطى والتي كانت تستوعب (120) طالباً في السنة، وأنشأت معها مدرسة أولية لكي تغذي المدرسة الوسطى بنفس الحجم ، بالرغم من معاكسات الاستعمار في ذلك الوقت إلا أن آواخر الأربعينيات كانت مدرسة حنتوب الثانوية في عطبرة، بدأ الناس يفكرون في نقلها إلى وسط السودان، وكثرت المقترحات، فأهالي رفاعة يريدونها في رفاعة وأهالي مدني يريدونها في مدني، وحتى أهالي سنار وكوستي يريدونها في مناطقهم، إلى أن بدأ عمنا المرحوم أبو زيد أحمد من أعيان ود مدني واقترح أن تكن المدرسة في حنتوب ، وكان يشجعهم على قبول هذا المقترح، وعرض لهم قطعة أرض كبيرة جداً مجاناً ، وكان هذا حافز مشجع، وأقيمت مدرسة حنتوب في مكانها الحالي بفصولها وداخلياتها ومكاتبها كلها ملك لأبو زيد ، وأظنها كانت تسمى الكلية لأن والدي رحمة الله عليه كان يريدني أن أكمل تعليمي حتي النهاية، وكان يقول لي: "الكلية جايبنها في حنتوب، وأنا عايزك تتعلم وتدخل الكلية"، ولكنه انتقل إلى رحمة مولاه، وتركني في المدرسة الأولية "رابعة".


الفراش (الجلاد)


بعد ذلك اتحاد المزارعين أنشأ داخلية لأبناء المزارعين، هذه الداخلية تبرع بأرضها الشيخ الأزيرق، وتوجد فيها حوالي ثلاثة مرابيع، كل مربوع لا يقل عن (200) متر مربع، وتوجد بها أيضاً داخلية جاهزة، كنا نسكن في الداخلية، كما توجد قطعة جاهزة (الصفرة)، وكان في هذه المدرسة خيرة المعلمين ، كان للمدرسة ناظران اثنان هما: الأستاذ مصطفى أبو شنب، والأستاذ صالح مصطفى الطاهر، أما الإدارة كانت للأستاذ أبو شرف، وكان رجلاً مهيباً – صارماً- خاصة إذا تجرأ طالب ودخل السينما، أو دار الرياضة، فقد كان يتم معاقبته في الطابور، والذي يتولى عملية الجلد كان هو الفراش عبد الله، أما الأستاذ أبو شنب فكان يدرس الإنجليزية "وأيّ غلطة بجلدة" وكان مهيباً ومحبوباً، وهذ الأسلوب كان يحبب إلينا الدراسة أكثر وأكثر . وكانت الدراسة في كل المواد باللغة الإنجليزية ماعدا القرآن واللغة العربية.


تحدي الخواجة


قبل أن أكمل حنتوب الثانوية قررت من الصف الثالث أن أدخل المجال العلمي، لذلك كنت أغيب عن حصص التاريخ والجغرافيا، وكان يدرس مادة التاريخ مستر هنري، وفي يوم سألني عن عدم دخولي لحصة التاريخ فأجبته بأني أريد أن أدخل علمي، فقال لي: "عملت كويس لأنو لو مشيت أدبي حتسقط" وتحداني وأنا أيضاً تحديته، وقمت بالتغيير من علمي إلى أدبي، وحصلت على درجة ممتاز، وذهبت إليه وأخبرته بالنتيجة فقال لي :(ماشي ياتو كلية) قلت له: الحقوق، فقال: "ليه .. عايز تكون متلقي حجج؟" هذا التحدي جعلني أقوم بتغيير مساقي من علمي إلى أدبي، وهذا سبب دخولي للقانون، وكانت رغبتي في الأول أن أدخل كلية الطب وأكون طبيباً.




دخلت كلية القانون بجامعة الخرطوم عام 1952 ، وزاملت فيها كلاً علي محمود حسنين وحسن عمر أحمد، كنّا معاً في الداخلية بغرفة واحدة (الحجرة الكبيرة) وكان يطلق علينا الفرسان الثلاثة لأننا كنا بنحصل على المرتبة الأولى والثانية والثالثة.


وبلغ عدد الطلاب الذين تم تخريجهم معي (30) طالباً، من دفعتي 11 طالباً أما البقية (19) فمنهم من تم رفده ومنهم من رسب.


بسبب انشغالهم عن العلم بأشياء انصرافية، فالخيار كان إما أن تنجح أو تسقط وتمشي بيتكم فلم يكن هناك حل وسط .ونجح من ضمن الـ(11) طالباً (3) من دون ملاحق وهم الفرسان الثلاثة( عبيد حاج علي وحسن عمروعلي محمود حسنين) بسبب التنافس بيننا، كنّا أصحاباً جداً، حسن عمر جاء إلينا وهو رجل كبير وموظف بالرغم من دراستنا، وعملنا كل شيء مع بعض إلا أن حسن عمر كان يقوم بحجب بعض المعلومات عنا للتميز. وحصلت أنا وحسنين على مرتبة الشرف أما حسن عمر فقد حصل على درجة أعلى (متميزة) وبعد التخرُّج تم استيعابنا من الكلية مباشرة بالقضائية عبر قائمة الخريجين التي يتم تحضيرها للعمل مباشرة. وزاملت في القضائية كلاً من عبد المنعم الزين النحاس ومحمود أبو قصيصة الذي كان عضواً متميزاً في المحكمة العليا الذي كان نائباً عندما كنت رئيساً للقضاة وكان من دفعتي في الجامعة وصديقي وذهبنا إلى إنجلترا سوياً وكان يشغل منصب النائب الأول وأيضاً كان برفقتنا نائب من الشرعية.


قضية في ذاكرتك؟


في النهود كنت في أحد الأيام جالساً مع القاضي الشرعي فحضر رجل يشكو زوجته وطالب بأخذها إلى بيت الطاعة(أخذ الزوجة إلى منزلها بواسطة الشرطة) فطلب منهما القاضي أن يحضرا بعد ثلاثه أيام للقرار وبعد ثلاثة أيام حضرا وكنت موجوداً أيضاً مع القاضي وعندها قال الرجل بأنه لا يريد زوجته وإنه قام بتطليقها وعندها نطق بكلام لن أنساه ما دمت حيّاً (نحنا جايين من بلدنا راكبين ضهر تور ما بنقدر نمشي ونجي والمرة دي قعدت في النهود وأخدت أخلاقياتهم وتاني ماتنفع معاي) وهذه العبارات رسخت في رأسي وعندما تم تعييني رئيساً للقضاة تذكرت بأن (البيت هناك لم يخربه القاضي فقط بل خربته القضائية جميعها فلو كانت هناك محكمة بمنطقة هذا الرجل لما كان حضر إلى هنا فقمت بإنشاء (14) محكمة في أي مدينة كبيرة لأن ذلك يرفع مستوى القرية وتم تعيين موظفين من القرية، كذلك العمال وحتى المراسلات فبذلك تم عمل نقلة في رفع مستوى المناطق.


أول قضية


أول قضية حكمت فيها كانت في محكمة النهود وهي ( قضية جثة اتلفت بالكامل وكانت عبارة عن هيكل عظمي مجرد من اللحم جاء البلاغ بأن أحدهم وجد مقتولاً وبدأت الشرطة في التحقيق والتحري ولم تستطع معرفة هوية صاحب الجثة، وكان وقتها البرلمان في الخرطوم صاحب (هيبة) وتأثير كبير ولم تكن هناك وسائل متطورة، فقام الناظر في هذه المنطقة بإحضار (ورل) وأدخله في قربة وقام بـ(ثقبها) من عدة اتجاهات حتى يتنفس(الورل) وقام بوضعه داخل (طشت) وأحضر أفراد (الفريق) جميعاً وأوهمهم بأن ما بداخل القربة هو (مصحف البرلمان) طالباً منهم القسم به بأنهم لا يعلمون هوية صاحب الجثة، فقالت إحدى نساء الفريق وإنهم لن يقسموا بكتاب البرلمان وأخبرتهم بأن هذه الجثة لشخص يدعى الجنقاوي وأنها عرفته من خلال أسنانه التحتية التي قالت إنها غير موجودة وإنها رأته في يوم الحادثة مع فلان وفلان وكان معهما وخرجوا به إلى خارج القرية، وبعد تحقيقات الشرطة اعترفا بقتله وأنهما قام بضربه وإخفاء جثته وسط الأشجار فجاءت بعد ذلك (كلاب) ونهشت جسده وتركته هيكلاً عظمياً، وكان التحقيق حينها في القضايا الكبرى يتم من قبل ثلاثه قضاة اثنين من القضاء الأهليين والثالث من الإنجليز، وهو الذي كان يقوم بنطق الحكم. ولا أدري بمَ حكم على قتلة (الجنقاوي) فقد تم نقلي من النهود قبل إصداري للحكم في هذه القضية التي واصل في الفصل فيها قاضي آخر اسمه أحمد التجاني عبد الهادي.


القضية الثانية؟


القضية كانت في ولاية سنار وكنت قاضياً من الدرجة الأولى في عام (1960_1966م) حدثت داخل سجن سنار وكان حوش السجن كبيراً وبه مظلة كبيرة يقومون بإجراء التمام بها، فإن كنت داخل السجن حسن السيرة والسلوك، فإن ذلك سيجعل الجميع راضياً عنك فيتم اختيارك للعمل بمطبخ السجن، أما إذا كنت غير ذلك فحينها سيتم الدفع بك للعمل في الجبل وإن كنت بين الأمرين فستخرج مع العساكر للقيام بأعمال النظافة وغيرها، وكان داخل السجن شاويش غاضب من أحد السجناء بداخل المطبخ وطلب منه الذهاب إلى العمل في الجبل وكان السجين يقوم بتقطيع اللحم بواسطة ساطور فأخذ الساطور وقام بضرب الشاويش على يده وصعد إلى سطح المظلة وجسمه مليء بالدماء والساطور بيده وطلبوا منه النزول لكنه رفض وطلب منهم إحضار القاضي فطلب الملازم إحضار قاضي قريب من السجن قاضي جزئي يدعى نورالدين إلا أن السجين رفض وقال لهم أحضروا لي القاضي مولانا عبيد، فاتصلوا بي الساعة السابعة وطلبوا حضوري وعندما حضرت، بدأ كل سجناء السجن بالتصفيق لي وكان يقف جميع العساكر وقال لي السجين وهو على سطح المظلة :(أنا ضربت الشاويش ومعترف بذلك ولو داير تعدمني أعدمني عندك هناك بس زح مني هؤلاء العساكرعاين ليهم عيونهم حمرا كيف؟) وطلبت منه النزول ونزل وهو يحمل الساطور وجسمه ملطخ بالدماء وكان كل السجناء والعساكر في حالة اندهاش من المشهد ولا أعرف سبب اطمئناني للشخص هذا وعندما وصل إلى قلت له (إذا واحد سألك تعال لي هناك في بيتي) ولا أدري ماذا حدث في حكمه لأنه تم نقلي بعد أسبوعين من ولاية سنار إلى محكمة الاستئناف وعملت بها من عام(1967م إلى 1968م).