ام سنط ذات اصول عريقة وضاربة في جذور التاريخ ولكن المعلومة التي يجهلها الكثيرون هي ان نشاة ام سنط ترجع لالاف السنين وسنقدم هنا بحثا كنت قد قمت به في قبل سنوات يتناول المراحل الثلاثة التي مرت بها ام سنط منذ نشاتها الى يومنا الحالي.

وهي باختصار:-

١-مرحلة ماقبل التاريخ (مرحلة ماقبل كرمة)

٢-مرحلة العنج

٣-مرحلة ام سنط الحديثة ومرحلة الجابراب

اولا مرحلة ماقبل التاريخ

بعد زيارة قمت بها الى المتحف القومي اكتشفت ان الاثار الموجودة في ام سنط صورة طبق الاصل من الاثار الموجودة في المتحف القومي عن فترة ماقبل كرمة (Prekerma) والتي يعتقد ان تاريخها يعود للفترة مابين ١٥٠٠ الى ٩٥٠٠ سنة قبل الميلاد على حسب اخر الدراسات

وهي ايضا تشمل فترة العصر الحجري الحديث

وقد كنت من هواة التنقيب عن هذه الاثار في ايام الثانوي وكنت قد احتفظت بمتحف مصغر يحتوي على الادوات الحجرية وقطع كاملة من الفخار وقطع صغيرة ذات نقوش مميزة

بالاضافة الى خرز من بيض النعام وعقد مميز من العقيق الاحمر

معظم هذه الاثار وجدناها مع بقايا جثامين (في منطقة الجدول (بيت التجاني الامين مالك الجديد) ومنطقة الحدبة الى داخل جنينة شكرت الله)

وكما ذكرت فان طريقة دفن الجثث و تطابق الاثار ونوع الفخار يدل على انها من العصر الحجري حيث اننا لم نعثر على اي ادوات نحاسية او برونزية كما اننا لم نعثر على دليل على استخدام الكتابة او حتى الرسم على الرغم من ان بعض النقوش على الفخار كانت مميزة

كما عثرنا ايضا على ادوات صناعة الفخار مثل الرحى الدوار وادوات حجرية ملساء لصقل الفخار

في منطقة الحدبة ومباني دائرية ذات ارضية من الصدف والقراقير اتضح في مابعد انها غالبا افران لصناعة الفخار وايضا كانت في منطقة الحدبة

ام سنط ليست المنطقة الوحيدة في الجزيرة التي عثر فيها على اثار حضارة كرمة ومملكة كوش فقد تم العثور على العديد من المواقع حتى في كسلا (راجع الخرائط المرفقة)

ولعل الخارطة التي توضح امتداد مملكة كوش تفسر ذلك.

من الراجح ان ام سنط كانت نقطة هامة على الطريق التجاري بين باب المندب وشمال السودان (الطريق المحاذي للنيل الازرق) حيث كان الفخار من المنتجات المحلية المتداولة

من غير الواضح كيف انتهت تلكم الحضارة الا ان تداخل هذه الفترة مع ابتداء فترة العنج يوحي بان الاخيرة ربما احتلت المنطقة بعد ذلك

وهناك ايضا حتمال فيضان النيل الا اننا لم نعثر على قبور (بدون فخار ) اي انها كلها مدفونة بقصد

يذكر ان بعثات استكشافية غربية زارت هذه المنطة الاثرية ووضعت علامات حدودية له وكان ذلك في الخمسينات الا هذه الاثار لم تجد الاهتمام والرعاية من موسسات لدول المختصة

فترة العنج:2

ورد ذكر العنج في الروايات الشفهية التي تتحدث عن تاريخ ام سنط والتي تذكر ان ام سنط كانت تعرف ب (دار عنج) وتتحدث الروايات عن وصف هؤلاء الاقوام بالقوة والضخامة وكونهم من المحاربين الشجعان

والملفت للنظر ان ام سنط وحدها من دون القرى المجاورة هي التي وصفت بانها دار عنج

كما ذكرنا في الجزء الاول من نشاة ام سنط ان الاثار الموجودة في ام سنط تعود الى فترة ما قبل ١٥٠٠ قبل الميلاد على الاقل وفي الغالب اكثر من ٦٠٠٠ سنة ولكن كثيرا ما يخلط الناس بينها وبين فترة العنج.

ظهر العنج في الربع اللاول من الالفية السابقة

وان صدقت الروايات السماعية فقد سكنوا ام سنط واستفادوا من موقعها المتميز ومواردها الطبيعية ولكن لا توجد اي اثار تشير الى تلك الحقبة باستثناء بعض القبور بين المقابر الرئيسية والجزء الغربي منها المسمى بمقابر السوريبة

فقد لاحظت (وكنت اسلك ذلك الشارع يوميا ذهابا الى بركات الثانوية )ان بها قبورا انكشفت بفعل التعرية ولكنها حديثة نوعا ما اذا قارناها بقبور الحدبة وفي نفس الوقت لم تكن مصفوفة في اتجاه القبلة اي انها قبل فترة دخول الاسلام

وتشير بعض الروايات ايضا الا ان هؤلاء العنج انقرضوا بين يوم وليلة واختفوا من ام سنط

وهناك ثلاث نظريات لهذا الاختفاء

١- انهم اضطروا الى الرحيل عنها بسبب كثرة الوفيات بسبب العقارب وحتى وقت قريب كان عقرب ام سنط مميت وقد ورد ذكر عقرب ام سنط في مذكرات ذلك الفرنسي الذي زارها سنة ١٨٣٨ حيث ذكر ان الاتراك كانوا سعداء باكتشاف ترياق لها !!!

٢- ان فيضانا عظيما اكتسح المنطقة واغرقم وام سنط معروفة بانخفاضها وهي معرضة حتى الان لمثل هذه الفيضانات

٣- ان نزوحهم كان نتاج حروب عسكرية حيث كانت هذه المنطقة ومنذ دخول احتلال العرب لمدينة دنقلا في القرن الرابع عشر محل نزاع بين القبايل العربية المسلمة

والنوبية المسيحية انتهت بقيام مملكة الفنج الاسلامية في القرن السادس عشر ومن اهم المدن في تلك الفترة سنار واربجي وايرها من مدن النيل الازرق مما يرجح ان ام سنط في خط سير تلك الحملات العسكرية

والسؤال الان من هم العنج

يبدوا ان العنج هو لقب مبهم لشعب من النوبة حير المؤرخين (تماما كلفظة الجنجويد التي لا يمكن ربطها بمجموعة اثنية محددة )

وببساطة يعتقد انهم احد سلالات النوبة التي حكمت مملكة علوة وهم نتاج خليط من النوبة وقبايل الشرق او الحبشة او العرب



وخير ما ذكر عنهم هو في هذا البحث لمؤلفه احمد الياس يس


وقد تطرق ابن سليم في تناوله العام للسكان إلى ما يوضح تطور الفكر الديني إلى جانب الدين المسيحي في مملكة علوة فذكر:

"وقد رأيت جماعة وأجناساً ممن تقدّم ذكر أكثرهم يعترفون بالباري سبحانه وتعالى، ويتقرّبون إليه بالشمس والقمر والكواكب، ومنهم من لا يعرف الباري ويعبد الشمس والنار، ومنهم من يعبد كل ما استحسنه من شجرة أو بهيمة، وذكر أنه رأى رجلاً في مجلس عظيم المقرة سأله عن بلده؟ فقال: مسافته إلى النيل ثلاثة أهِلة، وسأله عن دينه؟ فقال: ربي وربك الله، وربُّ الملك، وربُّ الناس كلهم واحد، وإنه قال له: فأين يكون. قال: في السماء وحده، وقال: إنه إذا أبطأ عنهم المطر أو أصابهم الوباء، أو وقع بدوابهم آفة صعدوا الجبل، ودعوا الله، فيجابون للوقت وتقضى حاجتهم قبل أن ينزلوه، وسأله هل أرسل فيكم رسول. قال: لا، فذكر له بعثة موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وما أبدوا به من المعجزات، فقال: إذا كانوا فعلوا هذا، فقد صدقوا، ثم قال: قد صدّقتهم إن كانوا فعلوا.

ويقودنا ذلك إلى الإشارة إلى ما تناولته كثيراً في محاضراتي للطلبة وفي وبعض المقالات إلى أن التوحيد هو الدين الذي بدأت به حياة البشر. فقد كان آدم عليه السلام موحداً وكذلك كل الأنبياء جاءوا بعقيدة التوحيد. وقد أخبرنا القرآن الكريم في عدد من الآيات أنه أرسل رسله لكل البشر على مدار التاريخ منذ عصر آدم وحتى عصر نبينا محمد ولذلك ذكر مفسرو القرآن الكريم أمثال ابن كثير وغيره أن عدد الآنبياء يقدر بعشرات الأألف. ولذلك يبدو أثر التوحيد واضحاً في ما نقله ابن سليم عن أهل مملكة علوة مثل قولهم " ربي وربك الله، وربُّ الملك، وربُّ الناس كلهم واحد"

وفيما يلىي ما ورد في المصادر العربية عن السكان:

العـنج

وردت إشارات قليلة ومقتضبة في المصادر العربية عن العنج، فقد جاءت الاشارة ثلاث مرات عند ابن عبد الظاهر (ت 792 هـ/ 1292 م) في كتابه (تشريف الأيام والعصور في مسعد ص 197)عن العنج. المرة الأولي وردت ضمن عدد من أسماء المناطق التي أرسل إليها السلطان المملوكي قلاون 678 – 689 هـ / 1280 – 1290 م الأمير علم الدين سنجر المعظّمي سفيراً. ولم يوضح الكاتب مواقع تلك المناطق التي أُرسلت إليها السفارة، كما لم يتمكن الباحثون من تحديد أماكن تلك المناطق التي رجحوا وجودها في مناطق البجة ومملكة علوة. وقد ذكر الكاتب من بين الأماكن التي وصلتها السفارة منطقة "صاحب العنج"

ووردت الاشارة إلي العنج مرتين أثناء الحملة التي أرسلها السلطان المملوكي خليل بن قلاون التي خرجت نحو عام 689 / 1290م بقيادة الأمير عز الدين الأفرم (ت 692 هـ / 1292 م) لتأديب ملك المقرة سمامون لخروجه عن طاعة المماليك. وقد طاردت الحملة جنوبي مدينة دنقلة أحد الأمراء الخارجين على السلطان ويدعى "آني". وذكر الكاتب أن الحملة وجدت من أخبرها أن الأمير آني:

"له يومان مذ رحل إلي جهة الأنج [العنج]، فتبعه العسكر مسافة أخرى، وعادوا بعدأن قتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا حريمهم، وأخذوا مالهم، ورجعوا بغنيمة عظيمة؟ ولم يسلم الملك آني إلا ومعه سبعة أنفار، وما أخر العسكر من لحاقه إلا شدة العطش، ولأن البلاد التي وصلوا إليها بلاد خراب، مأوى الفيلة والقردة والخنازير والزرافات والنعام."

ويواصل الكاتب حديثه أنه بعد رجوع الحملة من مملكة مقرة وصل كتاب من ملك الأبواب - في أول بلاد علوة – إلي السلطان المملوكي يذكر فيه أنه تأخر من الحضور إلي الأبواب السلطانية لأنه كان يطارد الملك آني، و"أن بلاد الأنج تغلب عليها ملك غير ملكها، وأنه متحيل في أخذها منه، وإذا أخذها صار جميع بلاد السودان في قبضة مولانا السلطان وطاعته"

يلاحظ أن اسم العنج لم يظهر في المصادر العربية إلا في نهاية القرن السابع الهجري ( 13م) عندما بدأ المماليك تدخلهم في شؤون مملكة مقُرة المسيحية. وكانت المصادر السابقة لهذا التاريخ تتحدث عن المملكتين الكبيرتين مقُرة وعلوة وما يتبعهما من مناطق وسكان. وبالطبع فإن اسم العنج لم يظهر في القرن السابع الهجري وقت ظهوره في المصادر العربية، ولا بد أن الاسم كان معروفاً ومستخدماً في الداخل للدلالة على منطقةٍ "بلاد العنج"، كما يشير أيضاً إلى السكان كما سيتضح ذلك من نَص الدمشقى الآتي. ويدل ذلك أن الاسم كان معروفاً وسائد الاستعمال في الداخل، ولم يكن معروفاً للمسلمين في مصر.

وليس من السهل التعرف على موقع بلاد العنج من خلال ما ورد عن حملة عز الدين الأفرم. وقد ذكر المؤلف أن عز الدين الأفرم تعدى مدينة دنقلة ثلاثة وثلاثين يوماً في مطاردة الأمير (أو الملك كما يطلق عليه أيضاً) آني. ولو اعتبرنا أن الحملة "تعدت" دنقلة – كما عبر ابن عبد الظاهر – ثلاثة وثلاثين يوماً في الذهاب والاياب، تكون قد توغلت فيما بعد مجينة دنقلة نحو خمسة عشر يوماً،. قد تكون هذه المسافة جنوباً ووصلت إلى منطقة زانكور في شمال كردفان كما يرى عدد من الباحثين مثل ماكمايكل وآركل. وتكون شمال كردفان هي منطقة العنج على هذا الرأي، وأرى أن هذا لرأي يبدو مقبولاً.

ويرى الدكتور أحمد المعتصم الشيخ في بحثه زمن العنج (معهد الدراسات الافريقية والآسيوية جامعة الخرطوم ص 9) أن الحملة توجهت شرقاً من دنقلة إلى أبو حمد، ثم دخلت الصحراء شرقاً. وتكون بلاد العنج كما يرى الباحث هي المنطقة الممتدة من أبوحمد شرقاً. ورغم أني لا أخالفه الرأي في أن بلاد العنج من الممكن أن تكون ممتدة إلى الشرق من أبو حمد، إلا أنني لا أرى أن مطاردة الأمير آني كانت في تلك الجهات. فالحملة قد سارت من دنقلة نحو خمسة عشر يوماً وهو الوقت الذي يوصلها أبو حمد، إذ المسافة بين دنقلة وأبو حمد كما قدرها الباحث خمسة عشر يوماً، وهي كل الأيام التي سارتها الحملة. فكيف تكون قد توغلت في الصحراء إلى أن بلغت مناطق الحيوانات التي ذكرت في النّص؟ وبناءً عليه يمكن ترجيح أن بلاد العنج الي أشار إليها ابن عبد الظاهر تمتد في منطقة شمال كردفان.

والمصدر الآخر الذي أشار إلى بلاد العنج هو كتاب الدمشقي (ت 739 هـ / 1328 م) فقد نقل الدمشقي في كتابه نحبة الدهر في عجائب البر والبحر(في مسعد ص 236) عن تجار أسوان أن أصناف النوبة هم: أنج وأزكرسا ووالتبان وأندا وكنكا. والجديد الذي أضافه الدمشقي عن العنج ما ذكره من أن العنج يسكنون جزيرة كبيرة من جزائر النيل تسمى أندا. وهو بهذا يوضح مكاناً آخر للعنج وهو الجزيرة الكبيرة والتي يقصد بها في المؤلفات العربية المنطقة الواقعة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق كما سنتعرض له لاحقاً. وهذا مكان ثانياً للعنج بالاضافة إلى المكان الأول الذي ذكره ابن عبد الظاهر وهو المنطقة الصحراوية.

ويلاحظ في الرسالة – المذكورة أعلاه - والتي أرسلها ملك الأبواب إلي السلطان المملوكي يذكر فيها "أن بلاد الأنج تغلب عليها ملك غير ملكها، وأنه متحيل في أخذها منه، وإذا أخذها صار جميع بلاد السودان في قبضة مولانا السلطان وطاعته" توضح أن مملكة العنج مملكة كبيرة تسيطر على مناطق واسعة بحيث ذكر ملك الأبواب أن خضوعها يعني خضوع كل السودان.

ويمكن أن نستلخص مما ورد في المصادر العربية عن العنج أنه كانت لهم مملكة كبيرة وواسعة تمتد في صحراء بيوضة إلى شمال كردفان ،كما تمتد في الجزيرة الواسعة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق. ويبدو أن سلطة المملكة المركزية لم تكن قوية على أقليم الدولة، وقد تمتعت بعض هذه الأقاليم من تحقيق كياناتها المستقلة مثل مملكة الأبواب التي خاطبها المماليك مباشرة إلى جانب بعض المناطق الأخرى التي وصلتها سفارة المماليك والتي – يبدو معقولاً – أن بعضها كان في حدود مملكة علوة.

وإلى جانب ما جاء في المصادر العربية عن العنج وردت عنهم أيضاً بعض المعلومات في المؤلفات المحلية المطبوعة والمخطوطة. وسنتناول هنا ما ورد عن العنج في كتاب "كاتب الشونة ص 4" الذي ألف في القرن التاسع عشر، وما ورد في مخطوطة شيخ التجانية في كردفان التي ترجع أصولها إلى القرن الثامن عشر الميلادي. جاء في مؤلف كاتب الشونة ما يلي:

"إن الفونج ملكت بلاد النوبة وتغلبت فيها في أول القرن العاشر بعد التسعمائة، وخطت مدينة سنار خطها الملك عمارة دونقس، وهو أولهم. وخطت مدينة أربجي قبلها بثلاثين سنة خطها حجازي بن معين، وعلى هذا يتضح أن عمارة أربجي في مدة العنج"

وورد في مكان آخر في كاتب الشونة: أما الجهة الشرقية فقد كان بها أولاد عون الله وهم سبعة رجال في مدة العنج أي النوبة، وكان أحدهم المسمى بالضرير قاضياً في مدة العنج قبل مدة الفونج."

وذكر أيضاً: "واتفق عمارة المذكور مع عبد الله جماع القريناتي من عربان القواسمة ، وعبد الله المذكور هو ولد الشيخ عجيب الكافوتة جد أولاد الشيخ عجيب، وتمت كلمتهم على محاربة النوبة وهم العنج ملوك سوبة وملوك القري. وتوجه عمارة وعبد الله المذكوران بما معهما من الجيش وحاربوا ملوك العنج وقتلوهم وأجلوهم من سوبة ... اتفق رأي عمارة بأن يكون هو الملك عوضاً عن ملك علوة التي هي سوبة "

ويواصل كاتب الشونة ما حدث بعد انتصار عمارة وعبد الله جماع قائلاً: "أما النوبة فمن بعد ما حصل بينهم من المحاربة والمقاتلة وصار الظفر للفونج تفرقوا شذر مذر، منهم من فر إلى جبال الصعيد فازوغلي وغيرها، ومنهم من فر بالغرب إلى جبال كردفان، ولم يبق منهم إلا أنفار قليلة دخلوا في الاسلام وتفرقوا في البلاد وسكنوا مع الناس وتناسلوا فيهم، وهم إلى الآن أنفار قليلون جدّاً ... وقليل من الناس يعرف أن أصلهم من النوبة لأن لسانهم الآن عربي حكم لسان العرب.

توضح هذه النصوص حقائق هامة عن العنج هي:

أولاً: أن زمن حكم العنج وفقاً للمفهوم العام في أذهان السودانيين في ذلك القت – كما نقلة كاتب الشونة – كان قبل قيام سلطنة الفونج.

ثانياً: أن العنج هم النوبا ملوك مملكة سوبة التي هي مملكة علوة. ويبدو واضحاً أن كاتب الشونة يستخدم اسم النوبا مرادفاً للعنج ملوك سوبة.

ثالثاً: يلاحظ أن استخدام كلمة النوبا - المرادفة لكمة عنج - هنا لا يرجع إلى مدلول كلمة النوبة في المصادر العربية التي رغم اتساع مدلولها إلا أننا توصلنا فيما سبق إلى أن مدلولها الخاص يصدق على المنطقة الواقعة شمال الشلال الثالث أي منطقة مريس. ومدلول كلمة نوبة العام في المصادر العربية يطلق أيضاً على مملكة علوة وسكانها، ولكنه لا يصدق على كل امتداداتها جنوباً وشرقاً وغرباً. فكلمة النوبة في المصادر العربية لا تصدق على "عربان العنج في منطقة البحر الأحمر"

رابعاً: أن لفظ العنج يستخدم للملوك ولسكان مملكة علوة الذين تفرقوا في البلاد بعد سقوط دولتهم، وأنهم اختلطوا بالسطان ودانوا بالاسلام، وحلت اللغة العربية محل لغتهم الأصلية ولم يصبح لهم كيان مستقل يميزهم عن باقي السكان.

أما عن المخطوطات المحلية فهي عبارة عن تدوين للروايات الشفاهية التي كانت سائدة إبان كتابتها، فهي من حيث محتواها لا تختلف عن الروايات الشفاهية كثيراً اللهم إلا في بعض الأحداث التي عاصرها الكاتب ودونها فتكون أوفر حظّاً في مصداقيتها. ورغم اشتهار طبقات ود ضيف الله بأنها أحتوت الكثير من التراث لمنطقة وسط السودان إلا أن ذكر العنج لم يرد فيما تناولته من أحداث وسير.

وقد ورد ذكر القبائل التي تنتمي للعنج في مناطق متفرقة من السودان في مخطوطة شيخ التجانية التي كتبت بعد قرنين من سقوط مملكة علوة كما وردت عند ماكمايكل (A History of the Arabs in the Sudan vol. 1 p 194 – 197.). "ومن بين تلك القبائل ذات الأصول العنجية قبائل التيايسة والكرتان في كردفان، والجانجي وبعض القبائل على النيل الأبيض وشمالاً حتي منطقة دنقلة، والفنكور والباجرم والداجو والفرتيت في دارفور. فالعنج كما يراهم كاتب المخطوط ينتشرون في وسط وشمال وغرب السودان."

ثم نأتي للروايات الشفاهية الغنية بتراث العنج. وقد تتبع الدكتور أحمد المعتصم الشيخ في بحثه الذي أشرنا إليه سابقاً تلك الروايات ذات الانتشار الواسع بين كل السكان في المناطق الواقعة بين الشلال الرابع شمالاً والنيل الأبيض جنوباً وبين منطقة الجزيرة منطقة البطانة شرقاً وشمال كردفان غرباً. واستخلص أن هذه المناطق التي ارتبطت بتراث العنج هي مناطق انتشار العنج قديماً. كما يرى الدكتور أحمد المعتصم أن الحلنقة هم العنج مستدلاً على ذلك باسمهم الذي يعني في اللغة الأمهرية السوط، وهذا السوط هو ما نعرفه في كل أنحاء السودان بسوط العنج. وأتفق مع الدكتور في كل المقدمات التي ساقها في الربط بين الحلنقة والعنج، ولكني أرى ضرورة التوضيح أن الحلنقة جزء من الشعب الكبير المعروف بالعنج.

وقد تعدت الروايات الشفاهية عن العنج مناطق النيل ووصلت إلى سواحل البحر الأحمر، فقد نقل أحمد المعتصم عن مخوطة "واضح البيان في ملوك العرب بالسودان" لعبد الله بن الأرباب الحسن بن شاور أن عبد الله جماع "خضعت له جميع البلاد إلا منطقة العنج في جهات البحر الأحمر فتحها ابنه الشيخ عجيب بعد أن علم أن شيخ عربان العنج مخالف للشرع المحمدي"

ويدل امتداد ارتباط تراث العنج حتى البحر الأحمر بالانتشار الواسع للعنج في عصرمملكة علوة، وبما أن كل المادة الواردة عن العنج تربطهم بفترة مملكة علوة السابقة لانتشار الاسلام ودخول القبائل العربية فإن ذلك ربما كان مؤشراً لامتداد حدود مملكة علوة. فهل امتدت حدود مملكة علوة على كل المناطق التي انتشر فيها تراثهم؟ ليس هنالك ما يمنع ذلك، بل هو الأكثر ترجيحاً. كما يلاحظ أن المخطوط وصف العنج بأنهم عرب، كما وصف زعيمهم بشيخ العرب، فعروبة العنج في هذا النص مثل عروبه العبدلاب.

art
art